حلب بعد الأسد… أزمة معيشية أم أزمة هوية؟

 الصورة ل عبد الهادي منصور/ pexels

كان يوم الأحد في الثامن من كانون الأول/ديسمبر مشمسًا على الرغم من قساوة برودته. يوم غير عادي، بل يوم استثنائي بكل ما تحمله الكلمة من معنى. في الشوارع أناس امتزجت في عيونهم ملامح الفرح بالقلق. حالة من الضياع الممزوج بعدم التصديق والإقرار بأن ما حصل حقيقة لا التباس فيها.

ثمة من كان يتساءل، هل سيعود النظام السابق؟ وثمة من يصرخ وأخيرًا تحررنا.

في مدينة حلب، عاصمة سوريا الاقتصادية وشريانها الحيوي التي كانت تحتضر، كانت توقّعات برؤية احتفالات ضخمة، خاصة وأن حلب وأهلها عرفوا بالغناء والرقص والطرب، غير أن ذلك اليوم بقي كحلم يقظة ومر مرور الصدمة. جل ما أسعد الناس وجود الكهرباء لعدة أيام. فانهمكت السيدات بالغسيل، وأشعل الناس المدافئ الكهربائية وكأنهم يعيشون يوم تحرير الكهرباء والخبز وبعض وسائط الحياة اليومية.

مر أسبوع على ذلك اليوم المشهود، وبدأت الصحوة من الحلم، ليبدأ معها طرح الأسئلة التي تبدأ ولا تكاد تنتهي، وكأن الأسئلة التي كانت محظورة في السابق باتت مشروعة، ويا ليتها من أسئلة تستحق التوقف عندها أو تمثل خطرًا حقيقيًا على النسيج الاجتماعي.

منذ اليوم التالي للثامن من كانون الأول، انتبه كثيرون إلى أمور ما كانوا ليفكروا بها، كزي النساء، وارتياد المقاهي والمطاعم، والاستعداد لأعياد الميلاد عند المسيحيين، ورأس السنة لجميع الحلبيين.

للمرة الأولى، تم إلغاء حفلات ليلة رأس السنة، وكأن ثمة أخطار ستحصل، أو ربما اعتبر البعض أن المناسبة غير سانحة هذه السنة لمثل هذه الاحتفالات، وبالتالي يجب التفكير بما هو أكثر جدية.

غير أن التشكيك بغد مشرق لسورية وللسوريين ظهر منذ الأسبوع الأول. كيف لا وقد عادت الكهرباء للانقطاع كالسابق، وعادت المياه لتشح وتنقطع، وارتفعت أسعار السلع الغذائية فجأة. لم يبال كثيرون بما هو أسمى، وهم أنفسهم الذين كانوا يتذمرون من أشياء كثيرة قبل أيام وأسابيع، عادوا إلى التذمر والاحتجاج.

ولكن ما الذي تغير؟ ربما تغير عنوان كبير! فالآن يمكن للمرء أن يقول ما يشاء. ولكن هل كانت هذه أسمى أمنيات هذا الشعب المقهور؟

وما هي إلا أيام وأسابيع حتى بدأت مواقع التواصل الاجتماعي تغص بالتعليقات والمواقف التي إن كشفت عن شيء، فهي تكشف عن حقائق مؤلمة. وبدا أن الناس يحتاجون إلى وقت طويل ليعتادوا واقعهم الجديد. ثمّة مَن تساءل "هل سأستيقظ في الخامسة فجرًا، لأذهب إلى الفرن؟". وآخر بدا مستغربًا فقال: "كنا قد تعودنا على ساعة معينة تصل إلينا الكهرباء، أما الآن، فنحن لا نعرف متى يمدوننا بالكهرباء!".

ثم ارتفعت الأسعار بشكل غير متوقع، وعادت فهوت، ثم ارتفعت. هناك مَن سأل: "فجأة غاب طيف الأمن والأمان، وكثرت حوادث السرقة والقتل. هل الحرية مقابل الأمن؟". بالنسبة إلى بعض الناس، كل ما يحصل طبيعي بعد عقود من نظام برمج حياة الناس على إيقاع معين. بالنسبة إلى آخرين ما حصل منذ الثامن من كانون الأول/ديسمبر وحتى نهاية شباط/فبراير مختلف.

بدت المرحلة الجديدة عصية الفهم عند مختلف شرائح المجتمع، فتاجر القماش الذي أمضى عمره في أسواق المدينة القديمة راح يستغرب: "كنا بالأمس نخاف من ذكر كلمة دولار. أما اليوم، فالدولارات بيد الجميع، ونحن لا نعمل، وخسائرنا أضعاف مضاعفة". ويردف: "لم نفكر يومًا إلا بعملنا ولقمة عيش أولادنا، وطوال السنين الماضية دفعنا فاتورة أكبر من طاقتنا، وحاولنا الصمود، أما اليوم، فما الذي ينتظرنا؟ الجواب عند الله. على أمل أن تنهض البلاد. أنا متفائل".

ميسون، سيّدة في الأربعينيات من عمرها تشغل وظيفة إدارية في جامعة حلب، تقول: "ما الذي تغير، كنا بدون أمان بنسبة معينة، والآن فُقد الأمان بشكل تام. كنا، أنا وزوجي الموظف مثلي، نأخذ مرتبنا الشهري ونحاول التكيف مع الأوضاع المعيشية الكارثية، أما الآن، فأصبحنا نخشى عدم التمكن من إطعام أولادنا وإكمال تعليمهم". وتردف: "ليس ما أقوله رأيي الخاص، إنه رأي زميلاتي وزملائي في الجامعة. واليوم نخشى أن نُطرد حتى من وظيفتنا بحجة أننا نساء. عن أي تفاؤل تتحدث؟".

أمّا سامر الجامعي الذي يعمل في مصنع للأدوية، فكانت خشيته مختلفة، قال: "لماذا أوقفوا دوائر النفوس عن العمل، ومصلحة تسجيل السيارات، وعطلوا عمل القضاء، وهم عازمون على تعطيل عمل المحامين. ما مشكلتهم مع جميع هؤلاء؟". وتابع: "للمرة الأولى بدأت أرى طيفًا واحدًا يسيطر على مفاصل الحياة في البلاد. ثم سأل: "هل من أمل في أن تتحسن النفوس؟". وأجاب هو على سؤاله: "ما أفسده الدهر لا يصلحه عطار".

حتّى الأساتذة أصحاب الخبرة التعليمية الطويلة تأثروا بالواقع الجديد فمرتباتهم التي كانت شحيحة في الماضي وحاولوا التكيف معها، أصبحت اليوم لا تكفي لشيء. برأي أحدهم: "ذهب لص، وجاء لص آخر مكانه. ذاك لا نعرف من كان يسانده ويسنده، وهذا أيضا أتى به أصحاب القرار في الخارج". وبحسرة أكمل: "لم يعلمني أحد أن هذا وطني. ولم تكن سورية لي في يوم من الأيام. ونحن لا وطن لنا. نعم، لست أشعر بأي انتماء لأي شيء".

كما انعكس الواقع المعيشي المتردّي حتى على القطاع الطبي، وتضاعفت تكاليف الاستشفاء، غير أنّ لأحد الأطباء رأي مختلف لا ينفك يجاهر به أمام الجميع ويقول: "مبروك، أصبحت سوريا جزء من الكيان الغاشم، إنها الآن تحت حكمه. نحن أمام شياطين، وهل أفترض وجود فرق بين شيطان وآخر. فهل هناك شيطان حنون ولطيف وشيطان شرير؟ إنهم جميعا شياطين. وفي صراع الشياطين، أنا مع الشيطان الأقوى الذي يعرف أن يكسر باقي الشياطين".

فهل نحن فعلاً أمام أزمة معيشية أم أزمة هوية؟

Author: 

Macarius Jabbour

Syrian writer from Aleppo 

randomness