حكايا العائدين والعائدات إلى الجنوب

الصورة لصفاء عياد

في وقت لا يزال الجيش الإسرائيلي حتى وقت كتابة هذه السطور مطلع شباط/فبراير، متمركزًا في العديد من القرى الجنوبية مانعًا الأهالي من التوجه إلى قراهم وتفقد منازلهم في العديد من القرى الحدودية، أمام مدخل بلدة مارون الراس في الشريط الحدودي، يتوافد المواطنون بشكل يومي علهم يتقدمون بإتجاه أحيائها الداخلية، ومعرفة أحوال منازلهم.

تفترش سيدة في الخمسين من عمرها، جانب الطريق وتشعل سيجارتها، هي ابنة بلدة مارون الراس سُمية كرنيب، تقول: "أتيت لأحرر أرضنا، هم مجبرون على التراجع إلى حدودهم، هكذا ينص إتفاق وقف إطلاق النار، ونحن لن نغادر مدخل قريتنا وسننصب خيمًا، ليس فقط حتى 18 شباط/فبراير، بل حتى لو قرروا البقاء 18 سنة في بلدتنا".

 تتابع كرنيب، "نحن جئنا إلى البلدة مسالمين، نطالب الجيش اللبناني أن يقف إلى جانبنا، نحن لا نملك سلاحًا، وليس هدفنا أن نقاتل إسرائيل، ولم نأتِ إلى هنا لكي نموت، نريد فقط أرضنا وهذا حقنا كما ذكر إتفاق وقف إطلاق النار". خلال هذا الحوار، تقوم فتاة تبلغ من العمر 4 سنوات بتوزيع الحلوى على المتجمعين أمام أحد مداخل مارون الراس، ولا تنسى التوجه إلى عناصر الجيش اللبناني وقوات اليونيفيل.

في بلدة مارون الراس يتحدث ضابط في الجيش اللبناني للأهالي قائلًا أن: "الجيش هنا لحمايتكم، ولن يكون عائقًا لدخولهم إليها، لكن حمايتكم مسؤوليتنا". ليعلو تصفيق الأهالي، وبينهم المراهق محمد فارس (17 عامًا) الذي قام بالتخييم ليلة واحدة أمام مدخل بلدته مارون الرأس، مع مجموعة من الشبان، ولكنهم اضطروا إلى إزالة الخيمة والتراجع إلى الخلف بسبب التهديدات الإسرائيلية.

يعبر فارس عن غضبه من تواجد العدو في بلدته، ويقول: "لما علينا نحن فقط الالتزام بالاتفاق، نحن أمضينا سنة وأربعة شهور من نزوح إلى آخر… بدء صبرنا ينفد، وحتى لو أن البلدة وبيوتنا ستكون مدمرة، الإنسان لا يمكن  أن يستريح إلا في أرضه، حتى لو كانت ركامًا".

أما مدخل بلدة يارون في الشريط الحدودي أيضًا فلا تزال السواتر الترابية أمام مدخلها تمنع تقدم الأهالي، بل حتى النظر إلى مدخل غير متاح بسبب تهديدات القناص الإسرائيلي. نصب شبان خيمًا جهزوها ببعض المستلزمات من  فرش وأغطية، وبعض الأطعمة، والمياه والشاي والقهوة، دون أن ينسوا عدة النرجيلة. يقوم الأهالي منذ وقف إطلاق النار بالقدوم من المناطق المجاورة لقرى قضاء صور التي استقروا فيها بعد إنتهاء الحرب علهم ينجحون في الدخول عليها.

في بلدة عيتا الشعب شبه المدمرة، بدء الشاب محمد قاسم (19 عامًا) بالعمل على “إكسبرس قهوة” متنقل، يتحدث عن إصراره على المشاركة في فتح بعض المصالح التي يحتاجها الأهالي عندما يأتون لتفقد منازلهم. قائلًا: "لا مقومات حياة من كهرباء ومياه وسوبرماركت، أقله لدي قهوة وشاي ومياه، وبعض الحاجيات الضرورية كي يتدبروا أنفسهم خلال النهار". يختار قاسم النوم في إحدى الكراجات لكي لا يتكبد مصاريف الوقود اللازم لانتقاله يوميًا من العباسية قرب صور إلى بلدته عيتا الشعب. يشير قاسم وهو منهمك بتلبية طلبات القهوة لبعض شبان البلدة، "بالرغم من الألم وفقدان العديد من أقربائنا إلا أن الجميع يأتون إلى عيتا  الشعب وضحكتهم تنير وجوههم، لقد مرّ علينا سنة وأربعة أشهر بعيدًا عن بلدتنا، كرامتنا لا تسمح لنا بالبقاء بعيدًا عنها".

ليس بعيدًا، في ساحة بلدة عيتا الشعب، تجلس الحجة فضيلة سرور، مع بعض من عائلتها لشرب القهوة وتدخين النرجيلة. تعبر عن فرحتها بالعودة: "نحن فرحون بالرجوع  إلى  أرضنا، إلا أن هناك غصة لكل شخص فقدناه". منزل آل سرور تدمر في أول ثلاثة شهور من الحرب. وتتابع "اليوم نقطن في شقة مستأجرة في العباسية، ونحاول البحث عن بيوت أقرب إلى عيتا الشعب، وإن لم نجد منزلًا للإيجار، سنقوم بشراء منازل جاهز، لكي نسكن فيه"، تشرح ذلك، "نحن  لم نعد قادرين على الاستقرار في مكان خارج بلدتنا، كل حياتنا كانت هنا، وعمل أولادي، وسنعود لكي نؤسس من جديد".

يصرّ ابن بلدة عيتا الشعب الخمسيني محمود نصار على إعادة افتتاح مطعمه للفلافل الذي دُمرّ في الحرب، يقول "هي مهنتي منذ 30 عامًا. نحن أبناء بلدٍ واحد، نساند بعضنا البعض". قدّم أحد أبناء عيتا  الشعب محله الذي لا زال صالحًا للعمل بالمجان لنصار في هذه الفترة، وبدأ في تنظيفه وترتيبه، وتحضير عدة الفلافل لكي يكون جاهزًا في أقرب فرصة.

يتكاتف أبناء بلدة عيتا الشعب لإعادة الحياة إليها، ومساندة بعضهم البعض، وتقديم يد العون لتنظيف المحلات التي تصلح للعمل، وإزالة الردم من أمامها. من هنا يضيف نصار، "لا يمكن أن يأتِ الأهالي إلى البلدة دون أن يجدوا مقومات حياة، أخي سيعيد إفتتاح دكانه وأنا مطعم الفلافل. ففي هذه الفترة سيتردد الأهالي كثيرًا إلى البلدة، سيجدون أقله بعض الطعام، فمرحلة العودة بشكل دائم يلزمها الكثير من الوقت".

بلهجة جنوبية يقول نصار: "لو لقيت خشة بدي أقعد فيها"، والخشة هي غرفة صغير للتخزين ملحقة ببعض البيوت، ويبرر ما قاله "لقد تعبت نفسيًا، ولا يمكن أن نتحمل بعد أن نبقى نازحين، فأنا أدفع 500 دولار أميركي بدل إيجار شقة سكنية في العباسية، هذا استغلال كبير، ولا يمكننا تكبد مصاريف جديدة". لدى نصار ثقة عالية بأن الحرب لن تتجدد، معبرًا "سنبقى في أرضنا، وها هو الجيش اللبناني متواجد بيننا ومعًا سنعود وسنعيد بناء كل شيء".

Location: 
Lebanon
Author: 

Safaa Ayyad

Lebanese journalist