الأضرار المادية توقفت ربما وبقيت تلك النفسية

المصدر: جو قسيس/ Pexels

مر لبنان السنة الماضية بحرب مدمرة وقام منها بالكاد مصابًا بخسائر مهولة منها بشرية ومادية واقتصادية. والآن في زمن التعافي من تأثيرات الحرب، تسود حالة حذرة من وقف إطلاق النار على معظم الأراضي اللبنانية، فالجنوب ما زال في وضع مقلق. صحيح أن هناك هدوء مصدره توقف الغارات والدمار اليومي، ولكن ماذا عن السلام الداخلي والتعافي من الأضرار النفسية؟ وماذا عن تأثير هذه الأضرار على الصحة النفسية؟ فهناك من خسر أحباءه أو بيته أو أرضه، ليكون في صفوف المتضررين الأمامية، وهناك من خسر عمله أو صحته أو حتى إيمانه بالوطن، من الساكنين بعيدًا عن مواقع النزاع الشديد، سواء المقيمين في لبنان أو في دول الإغتراب.

يمكن التعريف عن الصحة النفسية بحسب منظمة الصحة العالمية، بوصفها جزء لا يتجزأ من الصحة، وتعرّف على أنها "حالة العافية التي يحقق فيها الفرد قدراته الذاتية، ويستطيع مواكبة ضغوط الحياة العادية، ويكون قادر على العمل الإيجابي والمثمر، ويمكنه الإسهام في مجتمعه". وتوفر العافية النفسية ركيزة للمشاعر والأفكار والانطباعات والمعارف وعلاقات التواصل والسلوكيات الإيجابية. ومن ثم، فالعافية النفسية ليست فقط مرغوبة في حد ذاتها، ولكنها تعد أيضًا مصدرًا لجلب وحماية وتراكم رأس المال البشري والمادي والطبيعي والاجتماعي.

جهاد (اسم مستعار) مواطن لبناني يبلغ من العمر 65 عامًا من الناقورة جنوب لبنان قرب الحدود مع فلسطين المحتلة، اضطر إلى النزوح إلى شمال لبنان خلال الحرب. يروي رحلته الصعبة منذ بداية الحرب وبعدها: "كنا نعيش أنا وأشقائي أجمل أيام حياتنا، فقد ورثنا عن آبائنا وقبلهم عن أجدادنا أراض في الناقورة، وأقسمنا على عدم بيعها لنعزز ذكراهم فيها ولتعلقنا بها. نحن لا نهتم بالسياسة وهدفنا المكوث في أرضنا، ولكننا أجبرنا على تركها والنزوح إلى مناطق أخرى في لبنان"، تابع ليروي خيبته بعد الحرب "هل يمكن أن نعود حيث كنا؟ إلى ذكرياتنا ومتعلقاتنا الرمزية والثمينة ووضعنا المادي السابق؟ نحن لم نعتد الفقر… في حرب  ٢٠٠٦ شكلت أموالنا في المصارف ضمانة لنا، أما اليوم، فلا مصارف ولا من يحزنون".

يتابع جهاد "بدأنا التفكير بالهجرة، بالعودة أو اللاعودة إلى الناقورة، فقد خسرنا الكثير من الأصدقاء والأقارب والجيران. ثم قررنا العودة قبل المضي بأي قرار بشأن الهجرة… عدنا على أساس أننا لن نجد حجرًا على آخر، بعضنا وجد بيته متضررًا، وبعضنا الآخر لم يجد شيئًا". وجد جهاد منزله متضررًا، في حين خسر أخوته وأولاد عمه وأمه منازلهم، ولكن وجع أقربائه أوجعه، فخسارتهم خسارته، وشعر أن أي مشاريع مستقبلية في الناقورة ليست مضمونة، "أقضي معظم وقتي وحيدًا، لا أزور أحدًا ولا أريد أن يزورني أحد كي لا أعرف أخبار الناس وهمومهم، وقد عرضت أرضي ومصدر رزقي للبيع بأقل من نصف قيمتها، أما شقيقاتي فقررن عدم زيارة المنطقة لتفادي رؤية المأساة ونظرًا لاحتمال حصول غارات جديدة… خسرنا حتى نعمة قضاء الوقت مع العائلة. نقول إننا بخير ولكننا نكذب على أنفسنا، كنت أصدق مقولة أنه عندما تشتد المحن، يزداد الأقوياء عزمًا، ولكني لم أعد أؤمن بهذا بعد اليوم".

تلامس حالة جهاد معاناة نفسية من آثار الحرب، وفي هذا السياق تروي الأخصائية النفسية أمل (إسم مستعار) ما شهدته من تأثيرات على الصحة النفسية ما بعد الحرب عند اللبنانيين: "لا شك أن الحروب التي مر بها لبنان تركت آثارًا نفسية عميقة على المواطنين والمقيمين. ما نلاحظه في العيادات النفسية هو ارتفاع واضح في معدلات القلق، والتوتر، والاكتئاب، واضطراب ما بعد الصدمة. كثيرون يعانون من مشاعر الخوف المستمر، والأرق، وصعوبات في التركيز. التأثير لا يقتصر على الصحة النفسية فقط، بل يمتد إلى الصحة الجسدية أيضًا، شكايات كثيرة من أعراض جسدية مثل التعب المزمن، والصداع، واضطرابات الجهاز الهضمي، والتشنجات العضلية، كلها مرتبطة بالتوتر النفسي. حتى أن بعضهم يعاني من فقدان الشهية أو اضطرابات النوم، ما يزيد من سوء حالتهم الصحية بشكل عام".

تعطي أمل إرشادات حول كيفية التعامل مع التوتر والقلق الناتج عن هذه الأزمات: "هناك العديد من الطرق البسيطة لكن الفعالة، مثل ممارسة الرياضة، والتأمل، والتواصل مع الأصدقاء والعائلة… من المهم أيضًا الحد من متابعة الأخبار السلبية التي قد تزيد من التوتر". رغم فعالية هذه الطرق، تؤكد أمل أنه في الحالات الشديدة لا بد من اللجوء إلى اختصاصي نفسي للحصول على الدعم المناسب، "للأسف، يلجأ بعضهم إلى آليات دفاعية غير صحية مثل تعاطي الكحول أو المخدرات للهروب من الواقع، لكن هذه الممارسات التي تبدو كحلول، هي مؤقتة وتؤدي إلى مشاكل أكثر تعقيدًا على المدى الطويل".

من الواضح أن إنتهاء حرب الأسلحة على الوطن ليس إلا بداية حرب الوصول إلى الصحة النفسية، فالشعور بالتوتر أو الخوف طبيعي بعد كل ما مر به البلد، لكن من الضروري طلب المساعدة وعدم التردد في البحث عن الدعم، للقدرة على المضي بحياة صحية وتفادي إنعكاس هذه المشاعر السلبية على الأجيال القادمة.

Location: 
Lebanon
Topic: 
War on Lebanon 2024
Author: 

Jinane Abdallah

Social activist

randomness