الحاجة إلى سقف في زمن الحرب: جشع، واستغلال، ومخاوف محقة
قبالة انتهاء موسم الصيف من كل عام، يتحضر أصحاب الشقق الجاهزة المعدة للإيجار لموسم الركود، خاصة في المناطق السياحية، فيعتمدون استراتيجيات خفض الأسعار لاستقطاب أكبر عدد من المستأجرين اللبنانيين والمغتربين، لا سيما في المناطق المعتمدة على السياحة البحرية، كساحل محافظة الشمال اللبناني.
لكن حسابات نهاية الصيف الماضي تغيرت، حاملةً معها مفاجآت قد يكون اللبنانيون اعتادوها وتأقلموا معها. ما ميز نهاية الصيف الماضي الواقع في زمن الحرب والنزوح، هو إعادة أصحاب الشقق حساباتهم في اتجاهات جد مختلفة، فمنهم من قرر الاستفادة من ظاهرة النزوح الكثيفة والملحة لرفع الأسعار وتحويل الموسم "الميت" المتوقع إلى موسم المال والثراء، حتى ولو على حساب الفقر والحاجة، وآخرون قرروا أن ينسحبوا من السوق ويتخلوا عن أي مكاسب متوقعة لحساب اعتبارات أخرى.
بحسب سهام (اسم مستعار)، التي تعمل في مجال إدارة وتأجير العقارات، من شقق وشاليهات ومجمعات سياحية، فإن "الحرب خلقت صراعًا تجاريًا عند أصحاب العقارات، وصراعًا أخلاقيًا عندي، إذ أصبح العمل في هذا المجال الذي كنت اعتبره مصدر رزق، يفتح لي المجال لتوسيع شبكة معارفي وكسب مدخول إضافي ضروري لتأمين أساسيات الحياة، مصدر قلق وتأنيب ضمير"، فمع بداية تفاقم الحرب في بيروت والبقاع وبعلبك بعد الجنوب، سارع أصحاب العقارات إلى الاستفادة من الطلب العالي على شقق بعيدة عن مواقع الاشتباكات، واستنادًا إلى قانون العرض والطلب البسيط، من المفروض أن ترتفع الأسعار، ولكن عندما يكون السيناريو عرض و"حاجة إنسانية"، فإن سقف هذه الأسعار في كثير من الحالات يرتفع ليصل إلى مستوى متجرد من الإنسانية والمنطق.
طلب صاحب الشقة أضعاف القيمة المتوقعة لهذا الموسم، وزايد عليه السماسرة القدامى والجدد الذين ظهروا في الأزمة عارضين أي شقة متوفرة بمبلغ خيالي. ولكن هذا جزء واحد من الواقع، فسرعان ما بدأت اعتبارات ومخاوف أخرى تغيّر هذا المسار. "لقد أمضيت ستة أشهر وأنا أعمل بدون مقابل مع أصحاب مشروع شقق فخمة جديد تمهيدًا للافتتاح واستقبال الزبائن، تطوعي كان بغية ضمان الجودة عند الافتتاح وبعده، فأنا أتقاضى نسبة على الإيجارات ومن المهم عندي تقديم إقامة مريحة وخدمة ممتازة لزبائني بهدف بناء سمعة جيدة وضمان الاستمرارية. تم الافتتاح قبل يوم واحد من بداية التصعيد العسكري، وبعد اجتماعات طويلة قرر أصحاب المشروع عدم المضي باستقبال الزبائن لعدد من الأسباب، إذ كان اختلاف الثقافات أحد المخاوف الرئيسية عندهم، فعدم وجود شقق تتسع لأكثر من أربعة أو خمسة أفراد سببًا أساسيًا لعدم استقبال النازحين الذين كان من الصعب حصر تزايد عددهم، ما كان سيسبب -بحسب أصحاب المشروع- أضرارًا في هذه الشقق المفروشة حديثًا بأجود المفروشات. كما شكل التخوف من توقف النازحين عن دفع بدلات الإيجار لاحقًا، سببًا إضافيًا لإيقاف انطلاقة المشروع".
أوضاع النازحين المؤسفة وغياب قانون يحمي صاحب العقار دفعت بعض المستثمرين إلى تغليب حذرهم على رغبتهم في العمل وجني الأرباح. بالإضافة إلى ذلك، لعب الشق الأمني دورًا أساسيًا في التوصل إلى هذا القرار، خشية من أن يتم استهداف أحد أفراد العائلات النازحة لارتباطهم بأطراف حزبية.
في المقلب الآخر تشرح دانا (اسم مستعار)، وهي في الأصل من الجنوب وتسكن مع والدها في أحد أحياء بيروت القريبة من مناطق الخطر، "في منطقة متنوعة المجتمعات والطوائف مشابهة لمناطق مجاورة استهدفت في بيروت"، أنها شعرت بالخطر والمسؤولية عن حياتها وحياة والدها "هيمن الخوف علينا ودخلت في رحلة البحث عن مكان آمن خارج بيروت وزرت صديقتي في أحد المناطق في قضاء المتن للبحث عن شقة وسألت عن شقق أيضًا في مناطق من الشمال اللبناني، فوجدت الأسعار مرتفعة جدًا، ولكن لم يكن هذا العائق الوحيد الذي واجهته، فقد طلب أصحاب العقارات دفعة مسبقة لثلاثة أو ستة أشهر وشهر إضافي للسمسار، بالإضافة لشهر تأمين. ولكن حتى عندما سمعت عن شقة صغيرة بسعر مقبول، وجدت نفسي في موقع التفسير عن أصلي وطائفتي وانتمائي الحزبي أو السياسي وهو أمر غير لطيف، ولكنني أفهم هذه المخاوف ولو لم أوافق عليها".
زاد على موسم الركود الاقتصادي العقاري لهذا الخريف حرب وموت ونزوح، فوسط التحديات الكبيرة التي واجهتها سهام ودانا، كمثالين عن حالة المعنيين بإيجاد سكن بديل وعن المستثمرين في تأجير العقارات، وفي غياب قانون فعال لتنظيم هذا السوق، برزت اعتبارات تجارية وطائفية وقلق، بعضها استغلالي وبعضها محق، لتؤثر على تلبية احتياجات نازحين كانوا، وما زال بعضهم حتى بعد انتهاء الحرب، بأمس الحاجة لسقف يأويهم.