خارجة من غزة عالقة في لبنان: الحياة حين تلاحقك إسرائيل من مكان إلى آخر

المصدر: Palestinian News & Information Agency (Wafa) in contract with APAimages via Wikimedia Commons

 

لم تفكر ريما كثيرًا في البرنامج الدراسي والعقبات التي يمكن أن تقابلها كفلسطينية تتنقل من غزة إلى الخارج، حزمت حقائبها وارتحلت منذ عامين عن غزة إلى مصر كمحطة انتقالية مؤقتة ثم أخيرًا إلى لبنان، الذي لم يشتهر كثيرًا بهدوئه وبُعدِه عن التوترات هو الآخر. اعتقدت أن الحياة ابتسمت لها، بعد تسعة وعشرين عامًا من التجول داخل أسوار غزة، والكثير من محاولات الخروج لرؤية ومضة عن شكل العالم الخارجي. وصلتها رسالة القبول بأحد البرامج الدراسية في لبنان وبدا أن نافذة أمل قد فتحت لها.

"عندما بدأت الحرب في لبنان لم أشعر بشيء محدد، ما زلت في حالة إنكار تامة لكل ما حدث ويحدث في غزة ولبنان. واجهت بالطبع صعوبات في مواكبة الأحداث، والمواظبة على التدريب والجامعة في بداية الأمر، كانت الصدمة الأولى قوية وتسببت في حالة طويلة من الإنكار، لا أستيقظ منها إلا عند سماع أصوات خرق جدار الصوت أو القصف. قال أبي في صباح الثامن من تشرين الأول/أكتوبر أن لبنان أيضًا أصبح في دائرة الخطر، اليوم وبعد عام يتصل أهلي ليطمئنوا عني بدل العكس، أصبحنا نتشارك الأخبار والمستويات المختلفة من الأسلحة المستخدمة في غزة ولبنان وقوتها".

برغم ما عاشته ريما من الحروب والصراعات السابقة في غزة من حرب 2008-2009، إلى 2012، ثم 2014، وصولًا إلى 2019، حتى 2021، و2022، ما زالت الحرب شيء تعيشه كل مرة كأنها أول مرة، فهذه الحرب مختلفة بالنسبة لها. لم تهجّر هي أو أي من أفراد عائلتها من قبل، لم تعايش الحرب خارج غزة أو تقلق من قصف أهلها وأصدقائها وهم على طريق نزوحهم، لم تفقد الاتصال بأهلها لفترات طويلة، ولم تشاهد مرة مدينتها بأكملها تنسف جزء بعد آخر، كل يوم على مدار عام كامل.

تقول ريما "كثير ما يمازحني الأصدقاء بشأن ضرورة إجراء اختبار الجينات الوراثية لتحديد ما إذا كنت من غزة أم لا، بسبب فزعي في كل مرة يحدث فيها صوت انفجار، كوني من غزة لا يعني بالضرورة أني تعودت على صوت القصف، لم ولن أتعود، لا أعتقد بأن أي أحد منا عليه التعود على شيء بتلك الفظاعة".

أحد اختلافات هذه الحرب عما سبقها بالنسبة لريما هو معنى الوطن والعودة إليه "في البداية كنت أتمنى انتهاء الحرب حتى أعود إلى غزة، بل فكرت في أول الأمر أن اترك الدراسة وأعود، لكن أهلي حالوا دون اتخاذي هذا القرار. اليوم وبعيدًا عن استحالة العودة، لا أشعر أنني أريد ذلك أصلًا، لم يعد هنالك شيء بإمكاني العودة إليه، أريد أن أحفظ غزة كما هي في رأسي، بعائلتي وأصدقائي وذكرياتي، حتى ولو أعادوا إعمارها. إلى ماذا أعود؟ شوارع ومبان لم أرها ولم أمش فيها؟ إلى مدينة لا أعرفها؟ وطن على نفس الأرض لكنه ليس وطني؟".

واجهت ريما منذ يومها الأول في لبنان صعوبات في استخراج إقامتها. هناك فئات مختلفة من الفلسطينيين في لبنان، يواجه أغلبهم نفس المشكلة في الحصول على جواز إقامة. "أصبح أهلي هم من يطمئنون عن أحوالي، قلقين من حالتي، خاصة بعد أن شارفت إقامتي الدراسية على الانتهاء. لا أستطيع العمل في لبنان، ولا أستطيع العودة إلى غزة".

بعد السابع من أكتوبر طلب أحد موظفي الأمن العام في مرة من ريما إثبات تحويل أموال من أهلها في غزة يؤكد قدرتها المالية على الدراسة في لبنان، ولإستحالة ذلك في ظروف غزة الحالية، عرضت أن يرسل أفراد من عائلتها خارج غزة المال لها في لبنان، لكن الموظف لم يقبل أن تُحَوَّل الأموال من غزة.

تشارف ريما على إنهاء مدة المنحة الدراسية، ما يعني اضطرارها إلى مغادرة البلاد التي أسست فيها حياة اجتماعية وحفظت بعض شوارعها وعناوينها. وفي حين لا تملك الكثير من الخيارات، تواجه ريما صعوبة في إيجاد حلول للبقاء أو المغادرة، إذ لا تقبل من جهة فكرة الإقامة بشكل غير قانوني، ولا يعطيها جواز السفر الفلسطيني الكثير من الوجهات لتذهب إليها من جهة أخرى.

كان أحد المقترحات أن تذهب إلى مصر كما اتجهت صديقة لها وسكنت مع عائلتها اللاجئة من غزة، لكن تجد ريما نفسها وحيدة أمام مقترح الذهاب لمصر خاصة وأن عائلتها لا تستطيع تحمل كلفة النزوح إلى مصر، والتي أصبحت تقدر ببضع الآلاف من الدولارات عن كل شخص.

"حتى التدريب الذي كنت أتابعه في مؤسسة الدراسات الفلسطينية توقف. أغلقت المؤسسة التي كانت تستقبل في حروب سابقة اللاجئين، خوفًا من استهداف مقرها، حيث لا يفرق جيش الاحتلال بين مقر مدني وآخر عسكري، تطول الاستهدافات كل ما يرمز إلى فلسطين أو يشتبه في دعمه قضيتها".

تغير العالم منذ بداية أحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر، لم تعد الإنسانية وحقوق الإنسان يبدوان كمان كانا من قبل، تغير تعريفهما وأصبحا محل جدال، بعضهم فقد إنسانيته في نظرها، وبعضهم الآخر اكتسبها. على مدار أكثر من عام تشوهت رؤيتها للعالم جراء ما ترى كل يوم من صور المجازر وأخبارها المستمرة المرتكبة في حق الفلسطينيين واللبنانيين.

يستحق الموجودون خارج وطنهم من أهل فلسطين، العمل الدؤوب لإيجاد حلول لهم، من قبل وكالات الأمم المتحدة المعنية والدول المستضيفة، ولو كانت مؤقتة، إلى حين انتهاء الحرب في غزة، إذ يحق لكل إنسان الاستقرار في مكان آمن، وألا يضطر للتنقل بين بقاع الأرض مشتتًا إلى آخر الزمان أو حتى حدوث معجزة قد لا تحدث.

نحن من نشاهد من خارج أسوار غزة نعاني من القهر وقلة الحيلة، فماذا عن هؤلاء ممن أتيح لهم أخيرًا الخروج من أحد أكبر السجون المفتوحة في العالم ليروا الحياة، ثم استيقظوا ليجدوا أهلهم تحت القصف، ومن بعدها أصبحوا هم أنفسهم تحت قصف مماثل يعيشون المأساة ذاتها، متى تتوقف الحرب عن كونها المحرك الأساسي لأقدارهم في الحياة.

Location: 
Lebanon
Topic: 
War on Lebanon 2024
Author: 

Nourein El Kadi

Egyptian journalist residing in Beirut