هل يدرك المصاب بالتوحد الحرب والنزوح؟
كانت حياة الشابة زهراء (اسم مستعار) جهادًا يوميًا شاقًا حتى قبل الحرب الحالية والنزوح، فهي سيدة في مطلع العقد الرابع من عمرها، مطلقة، زوجها السابق غائب عن واجباته، والدة لطفلين، علي (اسم مستعار) ابن العاشرة وحوراء (اسم مستعار) ابنة الرابعة عشرة المصابة بالتوحد ونوبات الاختلاج، والتي تعاني من صعوبات حركية شديدة تجعلها بحاجة رعاية ومتابعة دائمتين. تعمل زهراء في مكاتب مؤسسة لبنانية، في وظيفة العاملة التي تهتم بالضيافة والنظافة. ما يميزها بحسب زملائها من موظفي وموظفات المؤسسة هو روحها المرحة ووجها البشوش: "لا يدري من لا يعرف ظروف عائلتها مقدار المشاق التي تتحملها والهموم الملقاة على عاتقها".
تسكن العائلة الصغيرة، الأم وطفلاها، منطقة الشياح على الأطراف الشمالية لضاحية بيروت الجنوبية، انضم إليهم قبل شهرين في شقتهم الضيقة والداها وأختها الصغيرة النازحون من جنوب لبنان، ثم ما لبثت منطقة الشياح نفسها، والمناطق المجاورة، أن شهدت ضربات إسرائيلية متكررة، "في شقتي المستأجرة في الطابق السادس، كنا نسمع أصوات القصف مضاعفة، كما كنا نشعر بالارتجاجات على نحو مخيف"، تتابع زهراء "الخوف المتكرر على سلامة عائلتي وسلامتي، والذعر الذي أصاب حوراء وعلي، دفعنا كلنا إلى مغادرة المنزل في ليلة اشتد القصف فيها واقترب، دون أن يتسنى لنا حتى أن نحمل معنا الأغراض الضرورية، وتوجهنا كما فعل كثيرون من سكان الحي إلى منطقة الرملة البيضاء للنجاة بحياتنا".
لم تنته الرحلة هنا، فمن شاطئ بحر بيروت عند الرملة البيضاء، إلى غرفة مستأجرة في طرابلس "لم نستطع البقاء فيها أكثر من يومين من جراء مشاكل في إمدادات الماء، وإدراكي المتأخر أن كلفة الإيجار والمعيشة هنا ستكون أكبر من طاقتي بكثير". عادت زهراء وابنها إلى بيروت بحثًا عن مركز إيواء مناسب، ثم سريعًا ما استقدمت أهلها: ابنتها حوراء، ووالديها وأختها، وأخاها وعائلته، إلى مركز إيواء وصلت إليه في بيروت، ومنه عادت إلى عملها في المؤسسة، بالإضافة إلى عمل جانبي في تنظيف البيوت علها تجمع من تعبها ما يكفي القيام بضروريات عائلتها الكبيرة، "قبل الحرب، كنت أساعد أهلي قليلًا بين الحين والآخر، لكني أصبحت الآن مسؤولة عنهم بالكامل، بالإضافة إلى عائلة أخي الذي خضع قبل أشهر لعملية قلب مفتوح، وما كاد يعود بعدها إلى العمل حتى أتت الحرب لتجعله جليس المنزل".
لا يقدم مركز الإيواء كل ما يلزم للنازحين المقيمين فيه، "يرتب هذا تكاليف إضافية على عاتقي من طعام وشراب، وبطانيات أمست ضرورية مع انخفاض درجات الحرارة وغياب وسائل التدفئة، بالإضافة إلى أدوية الضغط الخاصة بأمي".
تتذكر زهراء أكثر ما يقلقها: حالة ابنتها حوراء "في الماضي كان علي يقيم في مدرسة داخلية، في حين أترك حوراء وحدها في المنزل مضطرة، لكن متكلة على عناية الجيران بها، وتواصلي الدائم معهم خلال عملي. هي لا تستطيع التكلم، ولديها صعوبات في استعمال أطرافها، وتحتاج إلى مساعدة في تناول الطعام، وبحاجة مستمرة إلى حفاضات". على الرغم من تردي أحوال زهراء حتى قبل الحرب إلا أنها لم تقصر في فعل كل ما يمكنها فعله من أجل حوراء، "أحرزت زيارات الطبيب ومتابعة العلاج والدواء تحسنًا ملحوظًا في حالة ابنتي التي صارت تستطيع الوقوف والحركة البسيطة، ولكن مع ما نعيشه اليوم من بعد عن الحياة المستقرة، وضعف الموارد المالية، بالإضافة إلى الضغوط النفسية، كلها تساهم في تراجع حالة حوراء، وهو أمر يشعرني بالعجز والقهر".
على الرغم من تضامن جيران زهراء معها ومساعدتها في العناية بطفلتها حين كانت في شقتها في الشياح، ووقوف أهلها إلى جانبها على هذا الصعيد خلال النزوح، تبقى حالة حوراء مركز اهتمام والدتها، "كل شيء سينتهي: الحرب ستنتهي، وكل نازح سيتدبر أمره عاجلًا أم آجلًا، لكن حالة ابنتي أمرها مختلف". يثير قلق الأم الشابة التراجع الذي يصيب حالة ابنتها بعد كثير من الجهود والمصاريف والعلاج، ولا تغفل عن حالتها وحالة ابنها علي النفسية بعد كل ما تعرضا له من رعب القصف والهروب، وابتعادهما عن بيتهما الذي يشكل لهما المكان الآمن، "ولو ظهر أن علي منشغل بين أقرانه في مركز الإيواء، إلا أن أحدًا لا يجب أن يعيش هذه التجربة، الحرب والرعب والنزوح والمرض، خاصة الأطفال، فكيف إذا كانوا أصلًا من ذوي الإعاقة مثل حوراء؟".
يظهر للمراقب أن أي خطة طوارئ لم تكن قادرة على التعامل مع الأعداد الهائلة للنازحين التي تجاوزت 870 ألف نازح بحسب المنظمة الدولية للهجرة، فلبنان المنهك أصلًا بعد الانهيار الاقتصادي وجائحة كوفيد-19 ثم انفجار المرفأ، والاشتباكات الصغيرة لكن المتواصلة على مدى عام بعد 7 أكتوبر، هو بلد يرزح أصلًا تحت ثقل استثنائي جاء نزوح هائل ليفرض كمًا كبيرًا من الاحتياجات في ظل توفر قدرات محدودة على تلبيتها، ومن بين الفئات المستضعفة التي كثيرًا ما يمكن أن تغيب عن اهتمامات الفرق والجمعيات العاملة وامكانياتها تبرز فئة ذوي الإعاقة.
حوراء غير قادرة على التعبير، تبقى الأسئلة دومًا حاضرًا في ذهن أمها: "هل هي مرتاحة؟ أهي بحاجة شيء ما؟ أتشعر مثلنا بكل ما يجري حولها؟ أتود قول شيء يعجزها مرضها عنه؟ أتفتقد منزلها وروتين حياتها السابق مثل أخيها علي ومثلنا كلنا؟". ستبقى الأسئلة غالبًا بدون جواب شاف، لكن هذا لن يزيل القلق من قلب زهراء ولا التساؤل، الأكيد أن سعيها كأم مسؤولة عن عائلتها لن يتزعزع حتى توفر لهم كل الضروريات اللازمة.
يقول مصدر في وزارة الشؤون الاجتماعية أن الوزارة معنية بحاجات كل النازحين بفئاتهم المختلفة، معتبرًا أن وجود كثيرين من ذوي الإعاقة في مراكز النزوح يعني المساواة في الاستجابة، وتوفر الحق بالأمن والرعاية، لكن "هناك حالات لا يمكن أن يعيش أصحابها في مراكز عادية، لذا نسعى لتأمين مراكز مناسبة لهم، كما نعمل على توعية النازحين من ذوي الإعاقة ليتأقلموا مع ظروفهم الجديدة، ومع الآخرين ليتقبلوا ذوي الإعاقة ويعملوا على مساندتهم". يضيف المصدر أن الوزارة تنظم دخول الجمعيات المتخصصة إلى مراكز الإيواء، لكن الثغرة على هذا الصعيد تتمثل في عدم الوصول إلى كل الحالات التي بحاجة دعم أو مساعدة من جراء ضعف التواصل وضغط الحاجات.
يلفت المصدر إلى بطاقة الإعاقة التي تمنح لكل ذي إعاقة ممن يتقدم للحصول عليها، وهي تؤهله للاستفادة من مساعدات مالية دورية، وأخرى استثنائية مثل تلك التي ستدفع قبل نهاية العام الجاري بقيمة 100 دولار أميركي، بالإضافة إلى خدمات مؤسسات متخصصة وإعفاءات ضريبية وجمركية.